الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.[سورة الأنفال آية 11]: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11)}{إِذْ يُغَشِّيكُمُ} بدل ثان من {إِذْ يَعِدُكُمُ} أو منصوب بالنصر، أو بما في {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} من معنى الفعل، أو بما جعله اللّه، أو بإضمار اذكر. وقرئ: {يغشيكم} بالتخفيف والتشديد ونصب النعاس والضمير للّه عزّ وجل. و{أَمَنَةً} مفعول له. فإن قلت: أما وجب أن يكون فاعل الفعل المعلل والعلة واحدًا؟ قلت: بلى، ولكن لما كان معنى يغشاكم النعاس. تنعسون، انتصب أمنة على أن النعاس والأمنة لهم. والمعنى: إذ تنعسون أمنة بمعنى أمنا، أي لأمنكم، ومِنْهُ صفة لها: أي أمنة حاصلة لكم من اللّه عزّ وجلّ. فإن قلت: فعلى غير هذه القراءة قلت: يجوز أن تكون الأمنة بمعنى الإيمان، أي ينعسكم إيمانًا منه. أو على يغشيكم النعاس فتنعسون أمنًا، فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب على أنّ الأمنة للنعاس الذي هو فاعل يغشاكم؟ أي يغشاكم النعاس لأمنه على أن إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازى وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة، أو على أنه أنامكم في وقت كان من حق النعاس في مثل ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشيانكم؟ وإنما غشيكم أمنة حاصلة من اللّه لولاها لم يغشكم على طريقة التمثيل والتخييل؟ قلت: لا تبعد فصاحة القرآن عن احتماله، وله فيه نظائر، وقد ألم به من قال:وقرئ {أمنة} بسكون الميم. ونظير أمن أمنة حيي حياة ونحو أمن أمنة رحم رحمة والمعنى: أن ما كان بهم من الخوف كان يمنعهم من النوم، فلما طامن اللّه قلوبهم وأمنهم رقدوا وعن ابن عباس رضى اللّه عنه: النعاس في القتال: أمنة من اللّه، وفي الصلاة: وسوسة من الشيطان {وَيُنَزِّلُ} قرئ بالتخفيف والتثقيل. وقرأ الشعبي: {ما ليطهركم به}: قال ابن جنى: ما موصولة وصلتها حرف الجر بما جره، فكأنه قال: ما للطهور. و{رِجْزَ الشَّيْطانِ} وسوسته إليهم، وتخويفه إياهم من العطش. وقيل: الجنابة، لأنها من تخييله. وقرئ: {رجس الشيطان}.وذلك أن إبليس تمثل لهم، وكان المشركون قد سبقوهم إلى الماء ونزل المسلمون في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء، وناموا فاحتلم أكثرهم، فقال لهم: أنتم يا أصحاب محمد تزعمون أنكم على الحق وأنكم تصلون على غير وضوء وعلى الجنابة، وقد عطشتم، ولو كنتم على حق ما غلبكم هؤلاء على الماء وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش، فإذا قطع العطش أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة، فحزنوا حزنًا شديدًا وأشفقوا، فأنزل اللّه عز وجل المطر، فمطروا ليلا حتى جرى الوادي واتخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه الحياض على عدوة الوادي، وسقوا الركاب، واغتسلوا وتوضئوا، وتلبد الرمل الذي كان بينهم وبين العدو حتى ثبتت عليه الأقدام، وزالت وسوسة الشيطان وطابت النفوس. والضمير في بِهِ للماء. ويجوز أن يكون للربط، لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر والجرأة ثبتت القدم في مواطن القتال. .[سورة الأنفال آية 12]: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12)}{إِذْ يُوحِي} يجوز أن يكون بدلا ثالثًا من {إِذْ يَعِدُكُمُ} وأن ينتصب بيثبت {أَنِّي مَعَكُمْ} مفعول يوحى وقرئ: {إني}، بالكسر على إرادة القول، أو على إجراء يوحى مجرى يقول، كقوله أَنِّي مُمِدُّكُمْ والمعنى: أنى معينكم على التثبيت فثبتوهم. وقوله: {سَأُلْقِي} {فَاضْرِبُوا} يجوز أن يكون تفسيرًا لقوله: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا} ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم. واجتماعهما غاية النصرة. ويجوز أن يكون غير تفسير، وأن يراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم وتصحّ عزائمهم ونياتهم في القتال، وأن يظهروا ما يتيقنون به أنهم ممدّون بالملائكة. وقيل: كان الملك يتشبه بالرجل الذي يعرفون وجهه فيأتى فيقول: إنى سمعت المشركين يقولون: واللّه لئن حملوا علينا لننكشفنّ، ويمشى بين الصفين فيقول: أبشروا، فإن اللّه ناصركم لأنكم تعبدونه وهؤلاء لا يعبدونه. وقرئ {الرعب} بالتثقيل {فَوْقَ الْأَعْناقِ} أراد أعالى الأعناق التي هي المذابح، لأنها مفاصل، فكان إيقاع الضرب فيها حزا وتطييرًا للرءوس. وقيل: أراد الرءوس لأنها فوق الأعناق، يعنى ضرب الهام.قال:والبنان: الأصابع، يريد الأطراف. والمعنى: فاضربوا المقاتل والشوى، لأنّ الضرب إما واقع على مقتل أو غير مقتل، فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معًا. ويجوز أن يكون قوله: {سَأُلْقِي} إلى قوله: {كُلَّ بَنانٍ} عقيب قوله: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} تلقينا للملائكة ما يثبتونهم به، كأنه قال: قولوا لهم قوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} أو كأنهم قالوا: كيف نثبتهم؟فقيل: قولوا لهم قوله: {سَأُلْقِي} فالضاربون على هذا هم المؤمنون. .[سورة الأنفال الآيات 13- 14]: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)}{ذلكَ} إشارة إلى ما أصابهم من الضرب والقتل والعقاب العاجل، ومحله الرفع على الابتداء وأَنَّهُمْ خبره، أي ذلك العقاب وقع عليهم بسبب مشاقتهم. والمشاقة: مشتقة من الشق، لأن كلا المتعاديين في شق خلاف شق صاحبه، وسئلت في المنام عن اشتقاق المعاداة فقلت: لأن هذا في عدوة وذاك في عدوة، كما قيل: المخاصمة والمشاقة، لأن هذا في خصم أي في جانب، وذاك في خصم، وهذا في شق، وذاك في شق.والكاف في {ذلِكَ} لخطاب الرسول عليه السلام، أو لخطاب كل واحد، وفي {ذلِكُمْ} للكفرة، على طريقة الالتفات. ومحل ذلِكُمْ الرفع على ذلكم العقاب، أو العقاب ذلكم {فَذُوقُوهُ} ويجوز أن يكون نصبًا على: عليكم ذلكم فذوقوه، كقولك: زيدًا فاضربه {وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ} عطف على ذلكم في وجهيه، أو نصب على أن الواو بمعنى مع. والمعنى: ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة، فوضع الظاهر موضع الضمير، وقرأ الحسن: {وإن للكافرين} بالكسر..[سورة الأنفال الآيات 15- 16]: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)}{زَحْفًا} حال من الذين كفروا. والزحف: الجيش الدهم الذي يرى لكثرته كأنه يزحف، أي يدب دبيبًا، من زحف الصبى إذا دبّ على استه قليلا قليلا، سمى بالمصدر والجمع زحوف والمعنى: إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل فلا تفرّوا، فضلا أن تدانوهم في العدد أو تساووهم، أو حال من الفريقين. أي إذا لقيتموهم متزاحفين هم وأنتم، أو حال من المؤمنين كأنهم أشعروا بما كان سيكون منهم يوم حنين حين تولوا مدبرين، وهم زحف من الزحوف اثنى عشر ألفًا، وتقدمة نهى لهم عن الفرار يومئذ. وفي قوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ} أمارة عليه {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتالٍ} هو الكرّ بعد الفرّ، يخيل عدوّه أنه منهزم ثم يعطف عليه، وهو باب من خدع الحرب ومكايدها {أَوْ مُتَحَيِّزًا} أو منحازًا {إِلى فِئَةٍ} إلى جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها. وعن ابن عمر رضى اللّه عنه: خرجت سرية وأنا فيهم ففرّوا فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا فدخلوا البيوت، فقلت: يا رسول اللّه نحن الفرّارون، فقال: بل أنتم العكارون وأنا فئتكم. وانهزم رجل من القادسية، فأتى المدينة إلى عمر رضى اللّه عنه فقال:يا أمير المؤمنين هلكت، فررت من الزحف، فقال عمر رضى اللّه عنه: أنا فئتك. وعن ابن عباس رضى اللّه عنه: إنّ الفرار من الزحف من أكبر الكبائر. فإن قلت: بم انتصب {إِلَّا مُتَحَرِّفًا}؟قلت: على الحال، وإلا لغو. أو على الاستثناء من المولين، أى: ومن يولهم إلا رجلا منهم متحرّفا أو متحيزًا، وقرأ الحسن {دُبُرَهُ} بالسكون ووزن متحيز متفيعل لا متفعل، لأنه من حاز يحوز، فبناء متفعل منه متحوّز..[سورة الأنفال آية 17]: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)}لما كسروا أهل مكة وقتلوا وأسروا أقبلوا على التفاخر، فكان القائل يقول: قتلت وأسرت، ولما طلعت قريش قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسلك، اللهم إنى أسألك ما وعدتني، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فقال- لما التقى الجمعان- لعلى رضى اللّه عنه: أعطنى قبضة من حصباء الوادي، فرمى بها في وجوههم وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه، فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، فقيل لهم: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} والفاء جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم {وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم، وشاء النصر والظفر وقوّى قلوبكم، وأذهب عنها الفزع والجزع وَما رَمَيْتَ أنت يا محمد {إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى} يعنى أنّ الرمية التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة، لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمى البشر، ولكنها كانت رمية اللّه حيث أثرت ذلك الأثر العظيم، فأثبت الرمية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأنّ صورتها وجدت منه، ونفاها عنه لأنّ أثرها الذي لا تطيقه البشر فعل اللّه عزّ وجلّ، فكأن اللّه هو فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من الرسول عليه الصلاة والسلام أصلا.وقرئ: {ولكن اللّه قتلهم} ولكن اللّه رمى، بتخفيف {لكن} ورفع ما بعده {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ} وليعطيهم {بَلاءً حَسَنًا} عطاء جميلا. قال زهير:والمعنى: وللإحسان إلى المؤمنين فعل ما فعل، وما فعله إلا لذلك {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لدعائهم {عَلِيمٌ} بأحوالهم. .[سورة الأنفال آية 18]: {ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18)}{ذلِكُمْ} إشارة إلى البلاء الحسن، ومحله الرفع: أي الغرض ذلكم {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ} معطوف على ذلك. يعنى: أن الغرض إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين. وقرئ: {موهن}، بالتشديد. وقرئ على الإضافة، وعلى الأصل الذي هو التنوين والإعمال..[سورة الأنفال آية 19]: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)}{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ} خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم، وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهمّ انصر أقرانا للضيف وأوصلنا للرحم وأفكنا للعانى، إن كان محمد على حق فانصره، وإن كنا على حق فانصرنا. وروى أنهم قالوا: اللهمّ انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين. وروى أنّ أبا جهل قال يوم بدر: اللهمّ أينا كان أهجر وأقطع للرحم فأحنه اليوم، أي فأهلكه.وقيل: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا} خطاب للمؤمنين {وَإِنْ تَنْتَهُوا} خطاب للكافرين، يعنى: وإن تنتهوا عن عداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وأسلم {وَإِنْ تَعُودُوا} لمحاربته نَعُدْ لنصرته عليكم {وَأَنَّ اللَّهَ} قرئ بالفتح على: ولأنّ اللّه معين المؤمنين كان ذلك. وقرئ بالكسر، وهذه أوجه. ويعضدها قراءة ابن مسعود: {واللّه مع المؤمنين}. وقرئ: {ولن يغنى عنكم}، بالياء للفصل. اهـ..قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)} إلى قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)}التفسير: قال في الكشاف {إذ يغشيكم} {إذ} بدل ثانٍ من {إذ يعدكم} أو منصوب بالنصر أبو بما في عند الله من معنى الفعل أو بما جعله الله أو بإضمار اذكروا و{أمنة} مفعول لأجله {ومنه} صفة لها أي أمنة حاصلة لكم من عند الله. ولما كان غشيان النعاس وكذا إغشاؤه وتغشيته متضمنًا لمعنى تنعسون كان فاعل الفعل المعلل والعلة واحدًا كما هو شريطة انتصاب المفعول له. والمعنى إذ تنعسون لأمنتكم أو يغشاكم النعاس فتنعسون أمنًا. وجوّز على قراءة الإغشاء والتغشية أن تكون الأمنة بمعنى الإيمان أي ينعسكم إيمانًا منه. وجوّز أن ينتصب الأمنة على أنها للنعاس الذي هو فاعل {يغشاكم} أي يغشاكم النعاس لأمنه على أن إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازي وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة، أو على أن المراد أنه أنامكم في وقت كان من حق النعاس في مثل ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشيانكم وإنما غشاكم أمنة حاصلة له من الله لولاها لم يغشكم على طريقة التمثيل والتخييل، وقد مر فوائد هذا النعاس في سورة آل عمران. ومن نعم الله تعالى عليهم في تلك الواقعة إنزال المطر عليهم وكان فيه فوائد: إحداها: تحصيل الطهارة، والثانية: إذهاب رجز الشيطان. وقيل: هو الجنابة التي أصابتهم لأنها من تخييل الشيطان ولا تكرار لأن الأولى عام وهذه خاص. وقيل: المراد المني لأنه شيء مستخبث مستقذر وعلى هذا يكون في الآية دلالة على نجاسة المني لقوله: {والرجز فاهجر} [المدثر: 5] وقيل: المراد وسوسة الشيطان إليهم وتخويفه إياهم من العطش وذلك أن المشركين سبقوهم إلى الماء ونزل المؤمنون في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء فناموا فاحتلم أكثرهم فتمثل لهم إبليس في صورة إنسان فقال لهم: أنتم يا أصحاب محمد تزعمون أنكم على الحق وأنكم تصلون على غير وضوء وعلى الجنابة قد عطشتم، ولو كنتم على حق لما غلبكم هؤلاء على الماء وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش فإذا قطع العطش أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة. فحزنوا حزنًا شديدًا وأشفقوا فأنزل الله المطر فمطروا ليلًا حتى جرى الوادي واتخذ أصحاب رسول الله الحياض على عدوة الوادي وسقوا الركاب واغتسلوا وتوضأوا وتلبد الرمل الذي كان بينهم وبين العدوّ حتى ثبتت عليه الأقدام وكانت هذه ثالثة الفوائد وأشار إليها بقوله: {ويثبت به} أي بالماء {الأقدام} وقيل: الضمير عائد إلى الربط الذي يدل عليه قوله: {ليربط على قلوبكم} والمراد من تثبيت الأقدام الصبر في مواطن القتال، وذلك أن من كان قلبه ضعيفًا فرّ ولم يقف فلما ربط الله على قلوبهم أي قوّاها ثبتت أقدامهم ومعنى على أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأن علاها وارتفع فوقها. قال الواحدي: يشبه أن يكون على صلة والمعنى وليربط قلوبكم بالنصر وما أوقع فيها من اليقين. روي أن المطر نزل على الكافرين أيضًا ولكن الموضع الذي نزل الكفار فيه كان موضع التراب فعظم الوحل وصار مانعًا لهم من المشي والاستقرار. فقوله: {ويثبت به الأقدام} يدل مفهومه على أن حال الأعداء كان بخلاف ذلك. ومن جملة النعم قوله: {إذ يوحي ربك} وهو بدل ثالث من {إذ يعدكم} ومنصوب ب {يثبت} أو بذكر أني معكم الخطاب للملائكة والمراد أني معينكم على التثبيت فثبتوهم. وقيل: الخطاب للمؤمنين لأن المقصود من هذا الكلام إزالة التخويف والملائكة ما كانوا يخافون الكفار. وقوله: {فثبتوا الذين آمنوا} في هذا التثبيت وجوه: أحدها: أنه مفسر لقوله: {سألقي} {فاضربوا} ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة، ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم واجتماعهما غاية النصرة. وثانيها: أن يراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم وتصح عزائمهم ونياتهم في القتال فالإلهام من الملائكة كالوسوسة من الشياطين. وثالثها: أن الملائكة كانوا يتشبهون بصور رجال من معارفهم وكانوا يعدونهم النصر والظفر. ومعنى {فوق الأعناق} أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنها مفاصل، فكان إيقاع الضرب فيها إزالة الرأس من الجسد. وقيل: أراد ضرب إلهام لأن الرءوس فوق الأعناق. والبنان الأصابع سميت بذلك لأن بها صلاح أحوال الإنسان التي يريد أن يقيمها من أبن بالمكان أي أقام به، والمراد نفي الأطراف من اليدين والرجلين.
|